عندما تلهّى اللبنانيون برصد حراك الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين لم يتنبهوا إلى جوانب عدة من الظروف التي تتحكّم بمبادرته الهادفة إلى تطبيق القرار 1701، وهو ما عبّر عنه في موقف بالغ الدقة، عندما اتهم قبل أيام «حزب الله» وإسرائيل بخرق هذا القرار طوال 18 عاماً. وهو ما يعطيه هامشاً من الحيادية، وتضيء على الظروف الصعبة التي واجهها، بعدما سقطت اقتراحاته الواحد تلو الآخر، وبات عليه أن يبحث عن مخرج فذ. وعليه ما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
تجزم مصادر واسعة الإطلاع، عند مقاربتها الظروف التي رافقت مجموعة المبادرات التي أُطلقت منذ بدء ورشة العمل من أجل ترتيب اتفاق لوقف النار، يمهّد إلى تطبيق ما لم يُطبّق مما قال به القرار 1701، بأنّها كانت مشاريع ورقية تحمل في طياتها ما يكفي لتعطيلها قبل أن يجف حبرها. ويعود ذلك إلى ما فيها من المطبّات والمكامن السياسية والديبلوماسية التي تمّ تبادلها طوال هذه الفترة الممتدة على مدى عام وثلاثة اسابيع، عدا عمّا كان مضمراً من استعدادات للحرب لدى طرفي النزاع التي يمكن أن تقع في أي لحظة منذ حرب تموز 2006، بمعزل عن تلك التي تسببت بها عملية «طوفان الأقصى» في قطاع غزة بمبادرة من حركة «حماس».
ولتفسير هذه المعادلة، تضيف المصادر عينها، أنّ هناك أسباباً جوهرية لم يتطرّق إليها أحد من قبل، وخصوصاً عند إجراء المحاكاة الواقعية لمصير المبادرات التي أطلقها أصحاب النيات الحسنة، سواء تلك التي حملها الموفدون الدوليون والأمميون، أو تلك التي كلّف عدد من رؤساء الدول الغربية والعربية موفدين شخصيين لهم لمتابعة ما هو مطروح من افكار واقتراحات، تسعى إلى التوصل إلى قواسم مشتركة ترضي جميع الأطراف. وهي وإن جاءت بمختلف اللغات السياسية والديبلوماسية، فقد تجاوزتها العقول العسكرية في سباق مع السياسية منها لم يكن متكافئاً، فبقيت السيطرة للآلة العسكرية المذخرة بمختلف أنواع الاسلحة المتطورة، بما فيها تلك الإجرامية التي تستند إلى ما يمكن ان يحققه «الذكاء الاصطناعي» وما حمله من مفاجآت لم تكن محتسبة يوماً من الأيام، لأنّها لم تُستخدم بعد في أي عمل حربي تقليدي.
وللدخول في التفاصيل التي أوحت بها هذه المعادلات، توغلت المصادر عينها في تفسيرها انطلاقاً من المواقف العقلانية التي تجاهلها البعض لألف سبب او سبب. وإن قيل عن قصد او غير قصد، لربما كانت بهدف التضليل عن كثير من الحقائق التي تكشف عن حجم النيات المبيتة التي كان يضمرها المتنازعون ـ على الأقل بالنسبة الى ما يجري في جنوب لبنان، بمعزل عمّا جرى في قطاع غزة ـ منذ أن ألقت حرب العام 2006 أوزارها وصدور القرار 1701 الذي حمل في طياته بنوداً «ملتبسة» يمكن أن يتجدّد الخلاف في تفسيرها في أي لحظة. وهي التي كانت سبباً في خرقه الدائم من الجانبين الاسرائيلي و«حزب الله» على مدى 17 عاماً، في ظل فشل الأمم المتحدة في ضبط الوضع ووقف الخروقات المتبادلة. بحيث انّ ما تحقق من أمن واستقرار بقي هشاً قياساً على ما كان يضمره أطراف النزاع من نيات مبيتة، عبّرت عنها الاستعدادات التي لم تتوقف يوماً منذ تاريخ صدور ذلك القرار وحتى ومطلع تشرين الاول الماضي من عمليات عسكرية كان قد تمّ الاتفاق على تجميدها من دون الوصول إلى مرحلة تثبيت وقف اطلاق النار.
وانطلاقاً من هذه المعطيات ومؤشراتها التي لم تعد خافية على أحد، فُهم مضمون الموقف الذي أطلقه هوكشتاين في 25 تشرين الاول الجاري، عندما عبّر عن اعتقاده في إطلالته التلفزيونية بأنّه «عندما تتبادل إسرائيل و«حزب الله» الاتهامات بعدم الإلتزام بالقرار 1701 - يعني حقيقة واحدة - أنّهما لم يلتزما به طوال تلك الفترة». وعلى رغم من انّه لم يقطع الأمل بأنّ هذا القرار ما زال صالحاً «لإنهاء الحرب بين إسرائيل ولبنان وفق هذا القرار» انتهى إلى التأكيد أنّه «يجب السماح للقوات المسلحة اللبنانية بالانتشار فعلياً في جنوب لبنان والقيام بوظيفتها». وهو بذلك رسم صورة شاملة لحقيقة «يتبرأ» منها طرفا النزاع في حربهما التي كانا يستعدان لها طوال السنوات الماضية.
وقالت المصادر عينها، إنّ توصيف هوكشتاين يقود إلى مجموعة من الحقائق التي من الصعب دحضها. وهي تقول انّ الحكومة اللبنانية بفعل بعض شعاراتها التي افتقدت الإجماع الوطني، وخصوصاً ثلاثيتها «الجيش والشعب والمقاومة» ومعها قوات «اليونيفيل»، تغاضت طوال السنوات الماضية عن التحضيرات التي كان «حزب الله» يستعد لها، واكتفت راضية مرضية بوقف الظهور المسلح العلني. ولكنها على رغم مما تضمنته تقارير ممثل الأمين العام في لبنان من معلومات، أهملت ما كان يجري من حفر الأنفاق ونقل الاسلحة والصواريخ وتجميعها في المنطقة المحظورة على أي قوة عسكرية غير شرعية، والتي لا تحظى بموافقة القوى الشرعية اللبنانية و«اليونيفيل» – كما قال القرار 1701 في أكثر من بند من بنوده - بالحجم الذي ظهر منذ الإعلان عن «حرب الإلهاء والإسناد»، وخصوصاً في الايام الاخيرة التي ارتفعت فيها وتيرة العمليات العسكرية منذ 23 ايلول الماضي على جانبي الحدود. وخصوصاً ما ظهر من منشآت عسكرية على مقربة من مواقع «اليونيفيل» والجيش اللبناني وفي القرى الآمنة، ها هي عملية تفجير الأنفاق قد تسببت بهدم أحياء كاملة وتدميرها بطريقة يستحيل إعادة بناءها، بعدما تبين انّ منشآتها قد غرقت في عمق الأنفاق المحفورة تحتها.
على هذه الخلفيات، تعاظمت المخاوف مما هو آتٍ، طالما انّ المبادرات المحكي عنها قد جُمّدت كلها عشية الانتخابات الرئاسية الاميركية، ولم يلتزم هوكشتاين حتى اللحظة المواعيد التي قيل انّه قطعها، إن كان الحديث عنها صادقاً، وما لم يكن لمحاكاة الداخل اللبناني المنهار على اكثر من مستوى، وقد بلغت عمليات النزوح حدوداً لا تُحتمل في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها الدولة اللبنانية التي عبّرت عنها بعجزها الديبلوماسي الكامل، وفي مواجهة أزمة النزوح، عدا عمّا يمكن ان تؤدي اليه من قلاقل داخلية بوجود أكثر من «ذئب خسيس» استنسخ دوره نازحون سوريون يستغلون عواطف الناس ومخاوفهم من المتغيّرات الديموغرافية الحاصلة وما يمكن ان تؤدي اليه إن نجحت أيدي الفتنة متمثلة ببعض الأبواق التي تبحث عن أدوار ومواقع لا تمثل سوى نفسها في زرع افكارها للتوسع بمشاريعها الجهنمية.